
في مشهد بدا وكأنه يعكس اختلالاً عميقاً في العلاقة بين السلطة والإعلام، ظهر الناطق الرسمي باسم الحكومة في ندوة صحفية، يخاطب قاعة فارغة من الصحفيين. كان الغياب صارخاً، ليس فقط في صمته البصري، بل في دلالته العميقة التي تتجاوز اللحظة إلى أسئلة جوهرية حول مصير الكلمة الحرة والمعرفة التشاركية.
الندوة الصحفية، في جوهرها، ليست مجرد منصة لإلقاء التصريحات، بل فضاء للتفاعل بين السلطة المعلِنة والصحافة المراقبة. إنها مجال يولد فيه الخطاب الشرعية من احتكاكه بالأسئلة، من تحديه بالحقائق التي ربما لا يريد سماعها. في غياب الصحافة، يتحول الخطاب إلى مونولوج مغلق، لا يخاطب إلا نفسه، ولا يسعى إلا لإعادة إنتاج صورته كما يريدها.
إن غياب الصحفيين عن هذه الندوة ليس حدثاً بسيطاً أو عفوياً. إنه يعكس في جانب منه خوف السلطة من مواجهة الأسئلة، تلك الأسئلة التي تملك قدرة خفية على زعزعة اليقين المصطنع وكشف هشاشة الخطاب الرسمي. السلطة التي لا تواجه السؤال هي سلطة تعيد إنتاج ذاتها في معزل عن الواقع، سلطة تهرب من مواجهة حقيقتها في مرآة النقد.
لكن غياب الصحافة عن القاعة لا يعني بالضرورة غياب الجمهور عن المشهد. المواطن اليوم، بفضل تعدد مصادر المعلومة، لم يعد يعتمد فقط على الصحافة التقليدية. إنه يراقب، يحلل، ويضع تساؤلاته الخاصة. في هذا السياق، فإن خطاباً لا يتفاعل مع الصحافة يفقد صدقيته أمام الجمهور، لأنه يبدو وكأنه محاولة للهروب من المساءلة وليس سعياً لإبلاغ الحقيقة.
هذا الحدث يطرح سؤالاً أعمق: هل نحن أمام نهاية الصحافة كسلطة رابعة؟ أم أن هذا الغياب لحظة تحول، تعيد من خلالها الصحافة التفكير في دورها واستراتيجياتها؟ التاريخ يعلمنا أن الأزمات غالباً ما تكون نقاط انطلاق للتغيير. الصحافة، مثل أي أداة معرفية حقيقية، لا تموت، لكنها تتجدد، تتحرر من القيود التي تحاول السلطة فرضها عليها، وتبحث عن مساحات جديدة لتأدية وظيفتها.
الخطاب الذي لا يواجه الأسئلة يظل خطاباً ناقصاً، فارغاً مهما كانت بلاغته. الشرعية الحقيقية لأي سلطة تُبنى على قدرتها على الاستماع للنقد، على قبول التحدي الذي يفرضه السؤال الحر. أما الصحافة، فإن غيابها عن لحظة معينة قد يكون علامة على رفضها لدور المتفرج الصامت، وإعلاناً عن سعيها للعب دور أكثر استقلالية وتأثيراً.
ما حدث في تلك الندوة ليس مجرد حادثة عابرة، بل هو اختبار حقيقي لطبيعة العلاقة بين السلطة والمعرفة. إنها لحظة تدعونا جميعاً للتساؤل: هل يمكن للسلطة أن تستمر في خطاب أحادي، معزول عن أسئلة الواقع؟ أم أنها ستدرك، عاجلاً أو آجلاً، أن بقاؤها مرهون بقدرتها على مواجهة الحقيقة كما هي، بكل تعقيداتها؟
بقلم : علي ايت سيدي